السبت، 5 أغسطس 2017

شواء الصنوبرة .. (صباح سلامة)



من تعرفون رائحة الصنوبر مثلي ؟!
من يعرف عروشها وهي خضراء و" ِتفَّتَها" وهي ساقطة تحتها حمراء يابسة ؟ من يعرف دباغها البني الذي تطبِّبُني به أمي وجدتي مِن جروحي ومن قروحي ؟ من يعرف" كۡرُودها" الحضراء طرية يكسرها بأسنانه الغضة بحثا عن بعض حبات خضراء بين طياتها ؟ ومن رآها تتدلى عناقيد حمراء من أغصانها التي لا تسقط أوراقها الخضراء أبدا ؟ لكن أكيد أنكم تعرفون زقوقوها الأسمر الذي تعمرون به موائدكم عند ذكرى المولد كل سنة !! لا أحد فيكم لا يعرف طعم الزقزقو أو يتوه عنه عندما يتذوق جميع أنواع العصائد !! لكن من رأى نساء جميلات طمر الغبار ملامح أنوثتهن ، أو رجالا سمرا شدادا ، أو حتى أطفالا لا يَبِينون من الأرض ، يلتحمون بجذوع الصنوبرة ويلتحفون أغصانها العالية في عراك عنيف شديد من أجل التقاط كرودها الحمراء ناضجة ، ويعودون بها رزما ثقيلة تقصم ظهورهم ،و يضمدون خدوش سواعدهم وأكفهم بتراب الأرض يمحقونه بين أصابعهم الغليظة الخشنة حد التكلس !؟ . هل تعرفون الأفران المحفورة بين الجبال وفي وهاد الأودية التي تموج فوقها تيجان الصنوبر الأخضر ؟ في الأفران الحامية بنارها يقرفص ابن الصنوبر لينفض حبات الزقوقو عن كرودها بعد إحمائها ، ويجمعها حالما بثروة دنانير قليلة يسبغها عليه المتاجرون بتعب الخصاصة والاحتياج . فرقعتها وهي تتفتح داخل الفرن موسيقى لا يعرفها إلا أبناء الصنوبرة العالية وترقص عليها قلوبهم التي تعشش فيها الخضرة منذ أول فتحة عين على الكون..من سمع بعطر الصنوبر ؟ ليس ذلك العطر الذي تبخونهم في منازلكم بعد انتقائه من المحلات الكبرى الفاخرة ، فذلك عطر مزيف ، مجرد تقليد لعطر الصنوبر . عطر الصنوبر عندما يسكنك ويستوطن رئتيك لا تستطيع أن تخطئه أو تغيره أبدا ..للصنوبر عطوره ومنها درجات ، عطر للصيف ، وعطر للشتاء ، وآخر للخريف ، ورابع للربيع . عطر عندما تتفتح حباته ، وعطر عندما تتصاعد أدخنة الأفران ، وآخر أشد تركيزا وكثافة عندما تضوع رائحة الفحم والمردومة التي تنام جذوعا يابسة تحت التراب الحامي . أبناء الصنوبر لا يحرقون أغصان الصنوبر الأخضر ، بل ينبشون التراب ويقتلعون الجذوع الميتة ويجوبون غابة واسعة شاسعة خضراء بحثا عن العروق والحطب اليابس ، فهم لا قلوب لهم تقوى على قتل الصنوبر الأخضر ..يقول أبي ، ابن الصنوبر بامتياز ، بأن " الفحم الأخضر" فحم مغشوش لأنه مغموس بدم الصنوبرة الصامدة ، وأن تلك السيول التي تنزل مع فأس يقطع جذوعها الحية هي دموعها ، لكنها دموع لزجة تعلق بثياب القاتل " عِلۡكًا " أبديا لتذكره بجريمته كل يوم عندما يهم بارتداء ثيابه..
أبناء الصنوبر لا يعرفون "هاير" أو "كاريرا "، فكلما هب الشهيلي هبوا قبله إلى ظل الصنوبرة التي تبنى البيوت قريبا منها اختيارا وملاذا ..وهم أيضا لا يعرفون التدفئة المركزية ، فالصنوبرة تسقط أغصانها اليابسة تباعا في الشتاء هّبة من قلبها الأخصر ليتدفَّأ الأبناء ويطهوا شايهم الأسود الغليظ المعتَّق ..
هي صنوبرة ، شجرة بين الأشجار ، لكنها حياة ليست ككل حياة لأناس لا يعيشون ككل أبناء وطني الأخضر...فلماذا حرقتم حياتنا ؟ لماذا أحلتم خضرتنا سوادا ؟ ولماذا جعلتم نسائم ظلها لهيبا وسعيرا ؟ لماذا حوَّلتم عطر الصنوبر رائحةَ حروقٍ ودخان قاتم قاتل كاتم ؟
ألا تشمون رائحة شواء الصنوبر وهو يحترق ؟! ألم تهزكم دموع الصنوبر الأخضر ؟
هل وصلت رائعة لحم الصنوبر المشوي قبرك يا أبي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق